أحبّ منفاي | ترجمة

ماريا ثامبرانو

 

المصدر: كتاب «كلمات عن العودة».

ترجمة: حسني مليطات.

 

وُلِدَت الكاتبة والفيلسوفة الإسبانيّة ماريا ثامبرانو في مدينة مَلَقا، وتُعَدّ من الأصوات النسويّة المهمّة في إسبانيا، فقد تركت نتاجًا فكريًّا مهمًّا، أسّس لدراسات في الفلسفة الإسبانيّة الحديثة والمعاصرة، تتلمذت على يد الفيلسوف الإسبانيّ المعروف أورتيغا إي غاسيت، ودرّست الميتافيزيقا في «جامعة مدريد المركزيّة»، نشطت في الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وعندما استولى الجنرال فرانكو على الحكم، نُفِيَتْ إلى المكسيك، وتنقّلت في منفاها بين كوبا، حيث التقت الشاعر الإسبانيّ المعروف لوركا، وبورتوريكو. مثّلها عدد من الأدباء الإسبان شخصيّة رئيسيّة في أعمالهم الروائيّة المعاصرة، ومنهم الروائيّ المعروف مانويل ريفاس، في روايته «اليوم الأخير لتيرّانوفا»، الّتي ترجمتُها إلى العربيّة، وستصدر قريبًا عن «دار جامعة حمد بن خليفة».

نشرت ثامبرانو هذه المقالة في كتابها «كلمات عن العودة»، الّذي يتضمّن عددًا من المقالات الأخرى، الّتي تتحدّث عن مفاهيم الظلم، والعدالة، والحرّيّة، والسلام. تلتقي شاعريّة المنفى في هذه المقالة مع ما كتبه محمود درويش في قصيدة «مَنْ أنا، من دون منفى؟»، ويجتمع النصّان على فكرة عدم القدرة على الاستغناء عن المنفى، باعتباره الفضاء الرمزيّ، الّذي ينقلنا إلى العالم كلّه، يكشف لنا عمّا يفكّر فيه الآخرون، ويسمح لنا أن نعبر ذاتنا، ونوثّق ما تبقّى من ذاكرتنا ووجودنا.

 


 

أحبّ منفاي

قبل سنوات قليلة، كتبت مقالًا عنوانه «قبر أنتيغونا»، أوردت فيه عبارة "الوطن هو البحر الّذي يجمّع نهرًا من الجمهور". ذلك الجمهور الّذي يغادره المرء دون أن يمضي، ودون أن يخسر، فيمشي ’الشعب‘ الخطوة نفسها الّتي يخطوها الأحياء والأموات. وعند الخروج من ذلك البحر، ذلك النهر، تمشي ملتحفًا السماء والأرض فقط، وفي هذه الحالة، عليك أن تجمّع نفسك، وتحمل ما يُثْقِل كاهلك، وعليك أن تأتي بالحياة الماضية الّتي ستصبح حاضرًا، وتثبّتها جيّدًا حتّى لا تتأرجح. لا ينبغي جرّ الماضي ولا جرّ الحاضر؛ فاليوم الّذي ينتهي ويمضي ينبغي حمله إلى أعلى، وضمّه إلى باقي الأيّام الأخرى، والاحتفاظ به. إنّ المنفى الّذي تعيشه مثل تلّ، ينبغي لك أن تصعده، حتّى لو كان في صحراء، فعلى الرغم من المساحة الشاسعة الّتي أمامك، إلّا أنّه يكون ضيّقًا دائمًا. وبالطبع، عليك أن تنظر إلى كلّ مكان، وأن تهتمّ بكلّ شيء يحدث حولك؛ أي أن تكون مثل حارس يقف على آخر حدّ من حدود أرض معروفة، لكن ينبغي لك أن تمتلك قلبًا شامخًا، بحيث يكون أعلى من ذلك كلّه، تعتزّ به، وتعتلي به حتّى لا يغرق، وحتّى لا يزول. فعلى المرء ألّا يُذْهِبَ نفسه فينهار. لا ينبغي لك جرّ الماضي، كما لا ينبغي لك أن تنساه أيضًا. إنّ ما ينقصنا نحن الإسبان - بغضّ النظر عن الخطابات القوليّة الّتي يتحدّث فيها الخطباء عن الماضي وعن الكثير من الحماس التقليديّ لمَنْ يطلق عليهم هكذا - الصورة الواضحة لأمسنا، حتّى تلك الأكثر قربًا منّا. هناك تمرّد معروف للاعتراف بطريقة عيشنا في هذه الأيّام، وذلك ما يجعلنا نشعر بقوّة ووضوح أكبر، وبالحاجة والرغبة في التذكّر، وذلك بهدف تكوين ذاكرة، تتضمّن حسابات من ماضينا؛ فهذا ليس غريبًا: فكلّ ماضينا يُصَنَّف بالسلوك التراجيديّ لإسبانيا. إنّ صورة الماضي القريب ضروريّة دائمًا ولجميع الشعب، مثل اختبار التحقّق من أخطائهم وأوهامهم؛ فالحاضر دائمًا عبارة عن شظايا، عبارة عن جسم غير مكتمل، أمّا الماضي فيكمل تلك الصورة المشوّهة، ويجعلها أكثر شمولًا ووضوحًا.

ثمّة بعض الرحلات تبدأ بمعرفتها عند العودة فقط. بالنسبة إليّ، فمن نظرة العودة تلك، فإنّ المنفى الّذي انبغى لي أن أعيشه عبارة عن شيء أساسيّ؛ فأنا لا أستطيع أن أتصوّر حياتي بدون المنفى الّذي عشت فيه. لقد كان المنفى مثل بُعْدٍ لوطن مجهول، لكن بمجرّد أن يُعَرَّف لا يمكن التخلّي عنه. أعترف بذلك لأنّ الحديث عن موضوعات بعينها لا معنى لها إذا لم تُقَلِ الحقيقة، أعترف بأنّ ذلك كلّفني الكثير من العمل؛ للتخلّي عن 45 عامًا من المنفى، نعم، الكثير من العمل، دون الإساءة إلى أحد، بل على العكس من ذلك كلّه، هو اعتراف بالمروءة الّتي اكتست به مدريد وكلّ إسبانيا، مع الحبّ الّذي وجدته في الكثير من الناس، فمن حين إلى آخر يؤلمني ذلك، لا، لا، إنّه لا يؤلمني، إنّه شعور مشابه لشعور شخص سخيّ مثل سان بارتولوجي، إنّه شعور غير مفهوم، إلّا أنّه كذلك.

أعتقد أنّ المنفى عبارة عن بُعْد أساسيّ من أبعاد الحياة الإنسانيّة، لكنّني عندما أقول ذلك فإنّني أحرق شفتيّ، ولا سيّما أنّني لا أرغب في العودة مرّة أخرى لأكون منفيّة. بل أن يكون الجميع بشرًا، وأزواجًا كونيّين، من أولئك الّذين لا يعرفون المنفى. إنّه تناقض، فما الّذي سأفعله؟ فإذا أحببت منفاي، فذلك لأنّني لم أبحث عنه، على اعتبار أنّني لم أَسْعَ إليه. لا لن أقبله، فعندما تقبل شيئًا من القلب، يتطلّب الأمر الكثير من العمل للتخلّي عنه.

أنا تخلّيت عن منفاي؛ ولذلك فأنا سعيدة ومسرورة، إلّا أنّ ذلك لا يجعلني إنسانة، وبالتالي، سيكون مثل رفض لجزء من حكايتنا، تاريخنا، ومن حكايتي أنا نفسي وتاريخي. لا أحد يستطيع أن يعيد لي أربعين سنة من المنفى؛ ممّا يجعل غياب الحقد أجمل. لقد قُبِلَ منفاي، بشكل تامّ، إلّا أنّني في الوقت نفسه، لا أطلبه لأحد، ولا أتمنّاه لأيّ أحد من الشباب، ممّن يدركونه؛ لأنّك حتّى تفهم المنفى عليك أن تعاني منه، وبالتالي، فإنّني لا أتمنّى لأحد أن يكون مصلوبًا.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.